سورة الحاقة - تفسير تفسير النسفي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحاقة)


        


{الحاقة} الساعة الواجبة الوقوع الثابتة المجيء التي هي آتية لا ريب فيها، من حق يحق بالكسر أي وجب {مَا الحاقة} مبتدأ وخبر وهما خبر {الحاقة} والأصل الحاقة ما هي أي أيّ شيء هي تفخيماً لشأنها وتعظيماً لهولها أي حقها أن يستفهم عنها لعظمها، فوضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التهويل {وَمَا أَدْرَاكَ} وأي شيء أعلمك {مَا الحاقة} يعني أنك لا علم لك بكنهها ومدى عظمها، لأنه من العظم والشدة بحيث لا تبلغه دراية المخلوقين. و(ما) رفع بالابتداء و{أَدْرَاكَ} الخبر، والجملة بعده في موضع نصب لأنها مفعول ثانٍ ل (أدرى) {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة} أي بالحاقة فوضعت القارعة موضعها لأنها من أسماء القيامة، وسميت بها لأنها تقرع الناس بالأفزاع والأهوال. ولما ذكرها وفخمها أتبع ذكر ذلك ذكر من كذب بها وما حل بهم بسبب التكذيب تذكيراً لأهل مكة وتخويفاً لهم من عاقبة تكذيبهم.
{فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية} بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة. واختلف فيها فقيل الرجفة، وقيل الصيحة، وقيل الطاغية مصدر كالعافية أي بطغيانهم، ولكن هذا لا يطابق قوله {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ} أي بالدبور لقوله صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور» {صَرْصَرٍ} شديدة الصوت من الصرة الصيحة، أو باردة من الصر كأنها التي كرر فيها البرد وكثر فهي تحرق بشدة بردها {عَاتِيَةٍ} شديد العصف أو عتت على خزانها فلم يضبطوها بإذن الله غضباً على أعداء الله {سَخَّرَهَا} سلطها {عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وثمانية أَيَّامٍ} وكان ابتداء العذاب يوم الأربعاء آخر الشهر إلى الأربعاء الأخرى {حُسُوماً} أي متتابعة لا تنقطع جمع حاسم كشهود تمثيلاً لتتابعها بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكي على الداء بعد أخرى حتى ينحسم، وجاز أن يكون مصدراً أي تحسم حسوماً بمعنى تستأصل استئصالاً {فَتَرَى} أيها المخاطب {القوم فِيهَا} في مهابها أو في الليالي والأيام {صرعى} حال جمع صريع {كَأَنَّهُمْ} حال أخرى {أَعْجَازُ} أصول {نَخْلٍ} جمع نخلة {خَاوِيَةٍ} ساقطة أو بالية {فَهَلْ ترى لَهُم مّن بَاقِيَةٍ} من نفس باقية أو من بقاء كالطاغية بمعنى الطغيان.
{وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ} ومن تقدمه من الأمم {وَمِن قَبْلِهِ} بصري وعلي أي ومن عنده من أتباعه {والمؤتفكات} قرى قوم لوط فهي ائتفكت أي انقلبت بهم {بِالْخَاطِئَةِ} بالخطأ أو بالفعلة أو بالأفعال ذات الخطأ العظيم {فَعَصَوْاْ} أي قوم لوط {رَسُولَ رَبّهِمْ} لوطاً {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً} شديدة زائدة في الشدة كما زادت قبائحهم في القبح {إِنَّا لَمَّا طَغَا الماء} ارتفع وقت الطوفان على أعلى جبل في الدنيا خمسة عشر ذراعاً {حملناكم} أي آباءكم {فِى الجارية} في سفينة نوح عليه السلام {لِنَجْعَلَهَا} أي الفعلة وهي إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين {لَكُمْ تَذْكِرَةً} عبرة وعظة {وَتَعِيَهَا} وتحفظها {أُذُنٌ} بضم الذال: غير نافع {واعية} حافظة لما تسمع.
قال قتادة: وهي أذن عقلت عن الله وانتفعت بما سمعت.
{فَإِذَا نُفِخَ فِى الصور نَفْخَةٌ واحدة} هي النفخة الأولى ويموت عندها الناس، والثانية يبعثون عندها {وَحُمِلَتِ الأرض والجبال} رفعتا عن موضعهما {فَدُكَّتَا دَكَّةً واحدة} دقتا وكسرتا أي ضرب بعضها ببعض حتى تندق وترجع كثيباً مهيلاً وهباء منبثاً {فَيَوْمَئِذٍ} فحينئذ {وَقَعَتِ الواقعة} نزلت النازلة وهي القيامة، وجواب (إذا) {وَقَعَتِ} و{يَوْمَئِذٍ} بدل من (إذا) {وانشقت السماء} فتّحت أبواباً {فَهِىَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} مسترخية ساقطة القوة بعد ما كانت محكمة {والملك} للجنس بمعنى الجمع وهو أعم من الملائكة {على أَرْجَائِهَا} جوانبها واحدها رجا مقصور لأنها إذا انشقت وهي مسكن الملائكة فيلجؤن إلى أطرافها {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ} فوق الملك الذين على أرجائها {يَوْمَئِذٍ ثمانية} منهم، واليوم تحمله أربعة وزيدت أربعة أخرى يوم القيامة. وعن الضحاك: ثمانية صفوف. وقيل: ثمانية أصناف.
{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} للحساب، والسؤال شبه ذلك بعرض السلطان العسكر لتعرّف أحواله {لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} سريرة وحال كانت تخفى في الدنيا. وبالياء: كوفي غير عاصم. وفي الحديث: «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات: فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما الثالثة فعندها تطير الصحف فيأخذ الفائز كتابه بيمينه والهالك كتابه بشماله» {فَأَمَّا} تفصيل للعرض {مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ} سروراً به لما يرى فيه من الخيرات خطاباً لجماعته {هَاؤُمُ} اسم للفعل أي خذوا {اقرؤا كتابيه} تقديره هاؤم كتابي اقرؤا كتابيه فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، والعامل في {كتابيه} {اقرءوا} عند البصريين لأنهم يعملون الأقرب. والهاء في {كتابيه} و{حِسَابِيَهْ} و{مَالِيَهْ} و{سلطانيه} للسكت، وحقها أن تثبت في الوقف وتسقط في الوصل، وقد استحب إيثار الوقف إيثاراً لثباتها لثبوتها في المصحف {إِنّى ظَنَنتُ} علمت. وإنما أجرى الظن مجرى العلم، لأن الظن الغالب يقوم مقام العلم في العادات والأحكام، ولأن ما يدرك بالاجتهاد فلما يخلو عن الوسواس والخواطر وهي تفضي إلى الظنون، فجاز إطلاق لفظ الظن عليها لما لا يخلو عنه {أَنّى ملاق حِسَابِيَهْ} معاين حسابي {فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} ذات رضا يرضى بها صاحبها كلابن {فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} رفيعة المكان أو رفيعة الدرجات أو رفيعة المباني والقصور وهو خبر بعد خبر {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} ثمارها قريبة من مريدها ينالها القائم والقاعد والمتكئ يقال لهم:


{كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً} أكلاً هنيئاً لا مكروه فيهما ولا أذى أو هنئتم هنيئاً على المصدر {بِمَا أَسْلَفْتُمْ} بما قدمتم من الأعمال الصالحة {فِى الأيام الخالية} الماضية من أيام الدنيا. وعن ابن عباس: هي في الصائمين أي كلوا واشربوا بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله.
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ ياليتنى لَمْ أُوتَ كتابيه} لما يرى فيها من الفضائح {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} أي يا ليتني لم أعلم ما حسابي {ياليتها} يا ليت الموتة التي متها {كَانَتِ القاضية} أي القاطعة لأمري فلم أبعث بعدها ولم ألق ما ألقي {مَا أغنى عَنِّى مَالِيَهْ} أي لم ينفعني ما جمعته في الدنيا، ف (ما) نفي والمفعول محذوف أي شيئاً {هَلَكَ عَنّى سلطانيه} ملكي وتسلطي على الناس وبقيت فقيراً ذليلاً. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ضلت عني حجتي أي بطلت حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا فيقول الله تعالى لخزنة جهنم {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} أي اجمعوا يديه إلى عنقه {ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ} أي أدخلوه يعني ثم لا تصلوه إلا الجحيم وهي النار العظمى، أو نصب {الجحيم} بفعل يفسره {صَلُّوهُ} {ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا} طولها {سَبْعُونَ ذِرَاعاً} بذراع الملك. عن ابن جريج: وقيل لا يعرف قدرها إلا الله {فَاْسْلُكُوهُ} فأدخلوه. والمعنى في تقدم السلسلة على السلك مثله في تقديم الجحيم على التصلية.
{إِنَّهُ} تعليل كأنه قيل: ما له يعذب هذا العذاب الشديد؟ فأجيب بأنه {كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بالله العظيم * وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين} على بذل طعام المسكين، وفيه إشارة إلى أنه كان لا يؤمن بالبعث لأن الناس لا يطلبون من المساكين الجزاء فيما يطعمونهم وإنما يطعمونهم لوجه الله ورجاء الثواب في الآخرة، فإذا لم يؤمن بالبعث لم يكن له ما يحمله على إطعامهم أي أنه مع كفره لا يحرّض غيره على إطعام المحتاجين، وفيه دليل قوي على عظم جرم حرمان المسكين لأنه عطفه على الكفر وجعله دليلاً عليه وقرينة له، ولأنه ذكر الحض دون الفعل ليعلم أن تارك الحض إذا كان بهذه المنزلة فتارك الفعل أحق. وعن أبي الدرداء أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين ويقول: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان فلنخلع نصفها بهذا. وهذه الآيات ناطقة على أن المؤمنين يرحمون جميعاً، والكافرين لا يرحمون لأنه قسّم الخلق نصفين فجعل صنفاً منهم أهل اليمين ووصفهم بالإيمان فحسب بقوله {إِنّى ظَنَنتُ أَنّى ملاق حِسَابِيَهْ} وصنفاً منهم أهل الشمال ووصفهم بالكفر بقوله {إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بالله العظيم} وجاز أن الذي يعاقب من المؤمنين إنما يعاقب قبل أن يؤتى كتابه بيمينه {فَلَيْسَ لَهُ اليوم هاهنا حَمِيمٌ} قريب يرفع عنه ويحترق له قلبه {وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} غسالة أهل النار، فعلين من الغسل، والنون زائدة وأريد به هنا ما يسيل من أبدانهم من الصديد والدم {لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخاطئون} الكافرون أصحاب الخطايا وخطئ الرجل إذا تعمد الذنب.
{فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ} من الأجسام والأرض والسماء.
{وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ} من الملائكة والأرواح فالحاصل أنه أقسم بجميع الأشياء {إِنَّهُ} أي إن القرآن {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} أي محمد صلى الله عليه وسلم أو جبريل عليه السلام أي بقوله ويتكلم به على وجه الرسالة من عند الله {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} كما تدعون {قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ} كما تقولون {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} وبالياء فيهما: مكي وشامي ويعقوب وسهل. وبتخفيف الذال: كوفي غير أبي بكر. والقلة في معنى العدم يقال: هذه أرض قلما تنبت أي لا تنبت أصلاً، والمعنى لا تؤمنون ولا تذكرون البتة {تَنزِيلٌ} هو تنزيل بياناً لأنه قول رسول نزل عليه {مّن رّبّ العالمين ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل} ولو ادعى علينا شيئاً لم نقله {لأخَذْنَا مِنْهُ باليمين} لقتلناه صبراً كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم معالجة بالسخط والانتقام، فصور قتل الصبر بصورته ليكون أهول، وهو أن يؤخذ بيده وتضرب رقبته، وخص اليمين لأن القتّال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخد بيساره، وإذا أراد أن يوقعه في جيده وأن يكفحه بالسيف وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف أخذ بيمينه، ومعنى لأخذنا منه باليمين لأخدنا بيمينه، وكذا {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين} لقطعنا وتينه وهو نياط القلب إذا قطع مات صاحبه {فَمَا مِنكُم} الخطاب للناس أو للمسلمين {مّنْ أَحَدٍ} (من) زائدة {عَنْهُ} عن قتل محمد وجمع {حاجزين} وإن كان وصف {أَحَدٍ} لأنه في معنى الجماعة ومنه قوله تعالى: {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ} [البقرة: 285] {وَإِنَّهُ} وإن القرآن {لِتَذْكِرَةٌ} لعظة {لّلْمُتَّقِينَ * وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذّبِينَ وَإِنَّهُ} وإن القرآن {لَحَسْرَةٌ عَلَى الكافرين} به المكذبين له إذا رأوا ثواب المصدقين به {وَإِنَّهُ} وإن القرآن {لَحَقُّ اليقين} لعين اليقين ومحض اليقين {فَسَبِّحْ باسم رَبّكَ العظيم} فسبح الله بذكر اسمه العظيم وهو قوله سبحان الله.